"أهل القرآن هم أهل الله وخاصته". هكذا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في حديث رواه الإمام أحمد وابن ماجه والنسائي والحاكم عن أنس بسند حسن. أطهر أهل القرآن قلبا أقربهم لله. لا يمسه إلا المطهرون، وهم الملائكة ومن دخل في حكمهم بتطهره الظاهر والباطن حتى أزالت ملائكيته دوابيته، ومحت نورانيته ظلمته، وأذهب الله عنه الرجس وقربه وأحبه وجعله من خاصته. ولكل من عظم كتاب الله وخدمه حفظا وتلاوة، وعمل بأمره ونهيه نصيب من ولاية الله. ولَخَيْرُ الأمة من تعلم القرآن وعلمه، إذا كان مع التعلم والتعليم تقوى
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في حديث رواه البخاري وأبو داود والترمذي وابن ماجه عن عثمان بن عفان رضي الله عنه: "خيركم من تعلم القرآن وعلمه". قال الإمام الرفاعي في شرح هذا الحديث: "هذا الحديث الشريف يفيد أن الخيرية قد صحت لمن قد تعلم القرآن وعلمه لما في القرآن العظيم من بالغ الحكم، وغامض السر، وخطير الشأن، وهو حبل الله الأعظم، به يهتدي المهتدون، ويصل الواصلون. وهو خُلُق رسول الله صلى الله عليه وسلم، وباب الله تعالى، والمعجزة الدائمة، والنور الذي لا ينحجب. وعنه تأخذ أرواح العارفين أسرار المعرفة. وما المعرفة التي لم ترجع إليه؟ ما هي إلا زور وضلالة. ومتى تحقق العبد بالعلم بالقرآن العظيم فقد صار عارفا، وانكشفت له الأسرار الربانية، الملكية والملكوتية. ومتى صار عارفا حَنَّ وأَنَّ، وطلب زيادة العلم بالله من كل طريق وفن وكل الطرق والفُنُون في القرآن العظيم. والعارفون هم الراسخون في العلم يقولون آمنا به، وإليه سير هممهم، وعنه يصدرون، وبه يهيمون، ومنه يأخذون"[1].
القرآن العظيم هو ربيع قلوب الذاكرين، هو الذكر الحكيم )هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدًى وَشِفَاء وَالَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ فِي آذَانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى أُوْلَئِكَ يُنَادَوْنَ مِن مَّكَانٍ بَعِيدٍ( (سورة فصلت، الآية: 44).<span>الذين لا يومنون بالله يسمعون لفظ القرآن، لكنهم لا يهتدون بالقرآن. لا يهتدون به ولا يحفلون لأنه "هدى وبشرى" للمؤمنين لا لغيرهم،</span> لأنه "ذكرى" للمؤمنين لا لغيرهم، لأنه "هدى ورحمة" للمحسنين لا لغيرهم. قال الله تعالى: )وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاء وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ وَلاَ يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إَلاَّ خَسَاراً( (سورة الإسراء، الآية: 82). وقال جل سلطانه: )وَإِذَا مَا أُنزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُم مَّن يَقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَـذِهِ إِيمَاناً فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُواْ فَزَادَتْهُمْ إِيمَاناً وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ فَزَادَتْهُمْ رِجْساً إِلَى رِجْسِهِمْ وَمَاتُواْ وَهُمْ كَافِرُونَ( (سورة التوبة، الآيتان: 124-125).
نرى الناس في زماننا فَرَضوا على القرآن الإقامة الجبرية في المساجد ومعرض التجويد ومباريات الترنيمِ. ما أقاموه في الشأن الخاص والعام، ما احتكموا إليه، ما حكموه، ما اهتدوا به، ما تراحموا به، ما ابتسَمت حياتهم ببشراه</span>. اتخذوه مهجورا في التسجيلات والتسميعات لتُشَنَّفَ بألحان ألفاظه الآذان، والقلوب في عماها. وما ذاك إلا لانعدام أصل الإيمان، وبِلاه، وخلْقه. لا يتخذ المسلمون القرآن إماما إلا إن جددوا الإيمان في قلوبهم. ومن الاعتساف والحكم المضاف أن نعتمد القرآن فقط مصدرا للتشريع لا نعدو حرفيته. من الكفر أن نعتبر القرآن تراثا من التراث المجيد و"إنتاجا" قوميا ونثرا فنيا رائعا لا غير.
أوتي الصحابة رضي الله عنهم الإيمان قبل القرآن، فاستقبلوا نزوله بخشوع، وتلوا آياته في خضوع، وطبقوا أوامره متبعين غير مبتدعين. قرأوه حلاوة في اللسان، وأمانة في جذر القلب، ونورا في العقل المتفكر المفكر، ودليلا في خاص الأمر وعامه، وإماما وحيدا، ومرجعا فريدا، يبينه الرسول الأمين، ويفصله ويفهمه وحيا على وحي، نورا على نور. روى الإمام أحمد عن عبد الله بن عمر أن رجلا جاء النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله! إني أقرأ القرآن فلا أجد قلبي يعقل عليه! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن قلبك حُشِيَ الإيمان. وإن الإيمانَ يُعطى العبد قبل القرآن". وقال جندب بن عبد الله وابن عمر وغيرهما من الصحابة: "تعلمنا الإيمان، ثم تعلمنا القرآن فازددنا إيمانا". والآثار في هذا المعنى كثيرة، "رواها المصَنِّفون في هذا الباب عن الصحابة والتابعين في كتب كثيرة معروفة". كما قال ابن تيمية رحمه الله في كتاب "الإيمان"[2]. في رواية عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: "وأنتم أوتيتم القرآن قبل الإيمان، فأنتم تنثُرونه نثر الدقل". أي ترمون به مستخفين كما يرمى بالتمر الرديء.
يجب أن نقرأ أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم في توجيهه إيانا للقرآن ووصيته من بعده على ضوء أن الإيمان في قلوب الرجال هو الذي يهيِّئ السامع للاهتداء بالقرآن. كان القرآن كلمةَ الله التي ينطق بها رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان بلاغه وبيانه وخطابه الدائم لمن يدعوهم من الناس. فمنهم من آمن به ومنهم من صد عنه. لم يكن سماعُهم للقرآن سواءً .هداية الله وسابقة المدعوين عند الله تحدّد النتيجة، فيومن بعض ويحصلون على أصل الإيمان بهداية الله وهداية رسوله، ويزدادون إيمانا إذا تليت عليهم آيات الله. ويكفر آخرون ويصمون ويستهزئون. ثم كان الصحابة يقتبسون الإيمان، بعضهم من بعض. يجلس بعضهم إلى بعض ليذكروا الله جميعا، ومن جملة الذكر، بل أعظم الذكر القرآن. لا إله إلا الله من القرآن، فبذلك كانت أعلى شعب الإيمان، وكان تَرْدادُها وتِكرارها في صحبة المؤمنين أوثقَ مصدرٍ للإيمان وأقربه. يأتي عبد الله بن رواحة رضي الله عنه فيأخذ بيد الرجل من الصحابة فيقول: تعال نومن ساعة! روى الإمام أحمد عن أنس أن عبد الله فعل ذلك وقاله ذات يوم لرجل، فغضب الرجل وجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال يا رسول الله! ألا ترى إلى ابن رواحة يرغب عن إيمانك إلى إيمان ساعة! فقال النبي صلى الله عليه وسلم "يرحم الله ابن رواحة! إنه يحب المجالس التي تتباهى بها الملائكة". وفي الباب الأول من كتاب الإيمان في صحيح البخاري: وقال معاذ: اجلس بنا نومن ساعة.
وأخرج الترمذي هذه الوصية النبوية الشريفة الموجهة للمؤمنين المجاهدين، رواها عن زيد بن أرقم بإسناد حسن يقول فيها الحبيب صلى الله عليه وسلم: "إني تارك فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا بعدي، أحدهما أعظم من الآخر، وهو كتاب الله، حبل ممدودٌ من السماء إلى الأرض. وعتْرَتي أهلَ بيتي. لن يفترقا حتى يردا علي الحوض. فانظروا كيف تخلفوني فيهما". وأخرج أحمد وأبو داود والترمذي بإسناد صحيح عن العرباض بن سارية أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين، تمسكوا بها، وعضوا عليها بالنواجذ". الحديث.
ترك فينا الحبيب صلى الله عليه وسلم كلمة الله الحية، وترك فينا رجالا مؤمنين أحياء. والإيمان والإحسان يتجددان بالاعتصام بالحبلين العظيمين،كتاب الله وسنة رسول الله، ومن سنته العِتْرَةُ الطاهرة، وهم عموما كل متق وليٍّ لله، وخصوصا الطاهرون الأولياء. وهم آل البيت حقاً .باعتصامنا الصادق بهما يتجدد إيماننا حتى يتطابق مع إيمان الصحابة ويتماثل على المعيار القرآني الذي جاء فيه: )إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ( (سورة الحجرات، الآية: 10). وجاء فيه: )إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ( (سورة الأنفال، الآية: 2). وجاء فيه: )إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُوْلَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ( (سورة الحجرات، الآية: 15). رتِّبْ هذه الآيات إن شئت واقرأ شروط تجديد الإيمان وإحيائه: أخوة في الله، وصحبة، وذكر، وصدق .
بالاعتصام الجامع يصبح لتلاوة القرآن وحفظه معنى غير معنى الحافظين للحرف والمرتِّلين للسمع، تصبح له غاية زائدة على غاية الفقيه المجتهد وغاية المتبتل العابد. يصبح القرآن بحرفه وأحكامه ونوره قبلة الأرواح وضياء الدنيا والآخرة. الاعتصام الجامع هو مخرج الأمة من الفتنة، ومعراجُها من دركات الانحطاط والانهزام والغثائية. روى الإمام أحمد والترمذي والدارمي عن علي كرم الله وجهه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "ألا إنها ستكون فتنة!". قلت: فما المخرج منها يا رسول الله؟ قال: "كتاب الله فيه نبأ ما قبلكم، وخبر ما بعدكم، وحكم ما بينكم. هو الفصل ليس بالهزل.من تركه من جبار قصمه الله، ومن ابتغى الهدى في غيره أضله الله.وهو حبل الله المتين، وهو الذكر الحكيم، وهو الصراط المستقيم، وهو الذي لا تزيغ به الأهواء، ولا تلتبس به الألسنة، ولا يشبع منه العلماء، ولا يَخْلُقُ على كثرة الردّ، ولا تنقضي عجائبه. هو الذي لم تنته الجن إذ سمعته حتى قالوا: "إنا سمعنا قرآنا عجباً يهدي إلى الرشد فآمنا به".من قال به صدق، ومن عمل به أُجِر، ومن حكم به عدل،ومن دعا إليه هُدي إلى صراط مستقيم". الحديث.
الأحاديث في فضل القرآن، وثواب التالين، ودرجات الحافظين، وتنور السامعين كثيرة. كان الاعتصام بالقرآن والسنة طيلة هذه القرون بعد الخلافة الراشدة المهدية الأولى اعتصام قُربة فردية، نرجو من فضل مَن له الفضل سبحانه أن تجمع هذه الأجيال بين يدي الساعة إلى قربات القرآن الثوابية الدرجاتية قربة الجهاد في طريقنا إلى الخلافة الثانية المشهودة الموعودة. بذلك نكون حقا من أهل الله وخاصته كما كان من أُنزل القرآن بين ظهرانيهم. والقرآن كتاب جهاد أولا وأخيرا، ما أصبح تميمة للتبرك، ووثيقة مهجورة، ونصا معروضا معزولا إلا بِبِلَى الإيمان وعموم الفتنة، أخرجنا الله من عهودها بمنه.
قال الإمام عبد القادر قدس الله سره: "طر إلى الحق عز وجل بجناحي الكتاب والسنة. ادخل عليه ويدك في يد الرسول صلى الله عليه وسلم. اجعله وزيرَك ومعلمك. دع يده تُزَيِّنُكَ وتُمَشِّطُكَ وتعرضك عليه. هو الحاكم بين الأرواح، المربي للمريدين، جهبذ المرادين، أمير الصالحين"[3].
وقال الإمام الرفاعي قدس الله سره: "مفتاح السعادة الأبدية الاقتداء برسول الله صلى الله عليه وسلم في جميع مصادره وموارده وهيئته وأكله وشربه وقعوده وقيامه ونومه وكلامه، حتى يصح لك الاتباع المطلق"[4].
خلاف بعض الناس للناس وَسِباقُهم إلى دعوى الاعتصام بالكتاب والسنة يُخفي هوى حب الرئاسات، و"يعتصم" هذا وذاك من الوراقين بفهمه هو، وبقصده هو، وخُطته هو، وإمكانياته هو، واعتقاده هو في عبقرية نفسه، وعصمة مدرسته، وتحقيق نصوصه، ينسب ذلك كله إلى السنة والكتاب، كل من خالف مجموعه الفريدَ النضيدَ خطأٌ وبدعة وضلال. ما نتكلم مع أمثال الخالية قلوبهم من ذكر الله، ومن محبة الله ورسوله، تلك المحب
ة التي يصدر عنها ويرد إليها الأكابر الأولياء.